من أعظم مميزات أهل السنة والجماعة التطبيقية، أو السلوكية العملية: أنهم في واقعهم دائماً وأبداً متفقون لا يفترقون في أصول الدين، بخلاف غيرهم من الفرق، فـالخوارج كانت تسمى المحكمة، ثم خرجت فيما بعد الأزارقة، ثم تفرقوا؛ فخرجت النجدات على الأزارقة، وانشقت الإباضية عن النجدات، وكل منهم يقاتل الآخر ويكفره.
أيضاً من المعتزلة : إبراهيم النظام وأبو الهذيل العلاف، هؤلاء من أول من أسس الاعتزال كمادة كلامية، ومع ذلك كان النظام يكفر العلاف، والعلاف يكفر النظام، وكانا لا يتفقان مطلقاً.
كذلك الرافضة اختلفوا وانقسموا من أول خروجهم إلى: سبئية وكيسانية وزيدية، حتى أصبحوا فرقاً متناثرة، وأصبحت كل فرقة من الروافض ومن الشيعة تدعي أن الإمام فيهم؛ فقالت الإسماعيلية : أن الإمامة انتقلت في ذرية إسماعيل بن جعفر، وقال آخرون: إن الإمامة في ذرية زيد بن علي، وقالت الجعفرية : في ذرية جعفر الصادق لكن من ابنه موسى بن جعفر، فلما وقعت المشكلة الفاصلة للإثني عشرية التي فرقتهم تفريقاً لا رجعة فيه، وهي موت إمامهم الحادي عشر: الحسن بن علي العسكري من غير أن يعقب؛ لأن الإمامة عندهم تنتقل بالتناسل، فلابد أن يكون كل إمام ابناً للإمام السابق، ولا يمكن أن يكون أخاه أو عمه، لكن العسكري مات ولم يعقب -أي: ليس له ولد- فأصبح الدين كله باطلاً؛ لأنهم جعلوا ركن الدين والأساس الأعظم فيه هو معرفة الإمام، واشترطوا فيه أن يكون عقباً لإمام ولا عقب للحسن العسكري، وإما أن يكون أخاه أو عمه، وبذلك يرجعون للفرقة الأخرى، وهذا فيه إبطال لمزاعمهم، ولذلك اختلقوا أن له ولداً دخل السرداب، وهو الإمام الغائب الثاني عشر، الذي لا وجود له، وبعد ذلك اختلقوا أنه يكون على باب السرداب حاجب يتصل بالإمام الغائب ويأخذ منه التعاليم، فجاء محمد بن نصير أبو شعيب وادعى أنه الباب، وادعى القمي أنه الباب! وكل شخص يدَّعي أنه الباب.
وهذا كله كذب، فلا وجود للمهدي ولا للسرداب، وهكذا حتى انشقت النصيرية عن الشيعة، والزيدية عن الإمامية الجعفرية، وهكذا تفرقوا شيعاً، ولا لقاء بين تلك الفرق أبداً.
ومن الفرق التي اختلفت وافترقت: الصوفية؛ فقد قالوا: إن الجنيد سيد الطائفة، وبعد ذلك أصبحوا طوائف شتى، ففي أيام الدولة العثمانية أحصيت الطرق الصوفية المشهورة التي لها أتباع -وذلك قبل ثمانين سنة تقريباً، أي: في مطلع هذا القرن- فوجد أنها ثلاثمائة طريقة غير الطرق الصغيرة وغير الطرق المحدثة بعد ذلك، فأيها على الحق؟! مع أنهم يقولون: إن الجنيد سيد الطائفة، وإن سنده متصل بـالحسن البصري إلى علي أو إلى أبي بكر إلى محمد صلى الله عليه وسلم إلى جبريل عليه السلام، فلماذا -إذاً- هذه الفرق الثلاثمائة وأكثر؟!
إن بدايات معظم هذه الفرق أن يلازم المريد منهم شيخه، فيرى الأتباع بالآلاف، وبعد فترة يرى نفسه أكفأ من شيخه وأذكى منه، ومن الممكن أن يأتي بدجل أحسن من دجل شيخه، فينشق عن شيخه، ويأتي بطريقة أخرى ويسميها باسمه، وإذا أنكر عليه شيخه قال: كلنا كذلك، إذا كنت أنا مبتدع فأنت أيضاً مبتدع؛ لأنك انشققت عن شيخك!
فلا تغضبن من سيرة أنت سرتها            وأول راضٍ سيرة من يسيرها
فالانشقاق طريقة متبعة لديهم جميعاً، وهكذا حصلت الطرق المتعددة والمختلفة.
إذاً: فلا توجد طائفة ولا فرقة إلا وتفرقت وتمزقت إلا أهل السنة والحمد لله، فإنهم لا يتبعون إلا كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأئمتهم هم: أحمد، والبخاري، وسفيان الثوري، وسفيان بن عيينة، والفضيل بن عياض، وعبد الرحمن بن مهدي، ويحيى بن سعيد القطان، وغيرهم من الأئمة الأجلة الذين هم أئمة أهل السنة في كل مكان وفي جميع العصور، ويقتدي بهم أهل السنة في كل زمان ومكان، في منهجهم الذي هو اتباع الكتاب والسنة، وإيضاحهما ومقاومة البدعة، فمنهج أهل السنة منهج واحد لا يختلف ولا يضطرب، وهذه من أعظم المميزات العملية لـأهل السنة والجماعة.